یوسف والدراجة

الشاعر: ألشاعر منصور ألعرادي الفئه: مقالات ادبیِة,

«يوسف والدرّاجة»

بَينَما تَتَساقطُ الأوراقُ المُصفَرَّةُ مِن علىٰ مُتونِ الأشجار ..
الخاليَةُ مِنَ الأثمار
تُعانِقُ الرّصيف .. في فَصلِ الخَريف
كانَ هُناكَ رَجُلٌ إذْ أخَذَ بِيَدِ وَلَدِهِ ذات التِّسعَةِ أعْوام
وَذَهَبَ بِهِ إلىٰ سوقِ الأحْلام ..
ثُمَّ تَمَثَّلوا أمامَ بابِ مَحَلِّ بائِعِ دَرّاجاتٍ وفي ذلِكَ الحال ..
إلتَفَتَ إلَيهِ وَقال:
وَلَدي يوسُف إفتَح عَيناك ..
وَانظُر هُناك
فإنَّني قَد صَمَّمتُ في قَرارَةِ نَفسي ..
وأنا أُصبِحُ وأُمْسي
أنْ أشتَريَ لَكَ تِلكَ الدرّاجَةَ يَوْماً ما ، فَما رَأيُك؟

عِندَها وَمَضَت في عَينِهِ لَمعة ..
وما هِيَ بِدَمعة
إنَّها لمعةُ الأُنسِ والفَرحة ..
عَلىٰ هذه المِنحة
فبَينَما كانَ مُمسِكاً بِيَدِ والِدِهِ الخَلوق ..
إعتَصَرَ قَبضَتُهُ بشَوق
فقال: أبي وَهَلْ عَلَيَّ أنْ أفعَلَ شَيْئاً قِبالَ شِراءَكَ إيّاها
أجابَهُ: يا وَلَدي كَلّا ..
إنَّما فَقَط أُريدُكَ أن بِالصَّبرِ الجَميلِ تَتَحَلّىٰ

وَصارَ بَيْنَ الحينِ والآخَر يَأتِي بِوَلَدِهِ إلىٰ ذلِكَ المَحَل كَي يُرِيَهُ الدرّاجَةَ الّتي وَعَدَهُ بِشِراءِها لَه
حتّىٰ تَعَلَّقَ قَلبُ يوسُفَ الصّغير بِالدرّاجَةِ تَعَلُّقاً عَظيماً إلىٰ حَدِّ أنَّها شَغَلَتْ أفكارَهُ وأحْلامَهُ ..
وصارَ يتَخَيَّلَها في يَقضَتِهِ وَمَنامِه
ويُنادِمُها مُنادَمَةِ الحَبيبِ مَعَ حَبيبِه ..
وَهُوَ في أمَلِ ذلِكَ اليَومِ الّذي سَوْفَ تَكونُ مِنْ نَصيبِه

بَعدَ مُرورِ وقتٍ مِنَ الزّمنِ لَيْسَ بِالقَليل تَدَهْوَرَتْ حالَةُ الرَّجُلِ ماديّاً
ثُمَّ قالَ لوَلَدِهِ: لا تَهْتَمْ يا يوسُفْ إنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الدرّاجَةَ مِنْ نَصيبِكَ فَلَنْ تَكونَ لِغَيْرِكَ إطْمَئِنْ وٱهْدَأ فَسَوَفَ أُثبِتُ لَك
وَأقْسَمَ لَهُ عَلَىٰ ذلِك

بَعْدَ بُرْهَةٍ قصيرة ..
وَهُوَ في تِلكَ الظُّروفِ المُثيرة
إذْ فاجَئَ وَلَدَهُ حَيثْ أنّهُ اشتَرَىٰ تِلكَ الدرّاجَةَ العالِقَة في ذِهْنِ يوسُف وَأتىٰ بِها ليُقدِّمها لِأخيه!!
وأمامَ أنظارِ يوسُف دونَ أنْ يَبْدُرَ مِنْهُ شَيْئًا يَستَحِقَّ التَّوبيخ عَلَيه!!

تَوَجَّهَ يوسُف لوالِدِهِ بينَما يَعتَصِرُهُ الهَمَّ والألَمَ وَالحُزْنَ الشّديد ..
ويُغشيهِ الإستِنكارَ والتعجُّبَ والتّنكيد
حيث رأىٰ أحلامهُ الوَردِيَّةَ تَبَعثَرَت أمامَ عَيْناهُ المُغْرَورَقَتَيْنِ بِدُموعِ اليَأس

تَنَهَّدَ تَنْهيدَتَيْنِ طَويلَتَيْن
كادَتْ عَلَىٰ إثْرِهِما أنْ تَخْرُجَ مُهْجَتَهُ مِنْ حَنايا صَدْرِهِ المَملوءُ بِالآهاتِ والتّساؤُلات
كَفكَفَ دُموعهُ بِكُمِّهِ ثُمَّ لَملَمَ أنفاسهُ المُحتَرِقَةُ بِزَفيرِ العَبَرات
وَنَطَقَ بِكَلِماتٍ مُتَقَطِّعَةٍ مُخاطِباً أباه

لِماذا فَعَلْتَ ذلِكَ بِي ..
يا أبي
وَأيْنَ تِلْكَ الوُعود؟

فَأجابَ الأبْ: وَلَدِي يوسُف
لا تَقسو عَلَيَّ وعَلىٰ نَفْسِك بِهذا الكَلام
فإنَّ مِنَ المُسْتَحيلِ أنْ يَذْهَبَ لِغَيْرِكَ شَيْءٌ قَدْ كَتَبَهُ الله لَك!

فَأجابَهُ يوسُف: أبَتي أوَهَلْ ألله سُبحانَهُ هُوَ مَنْ وَعَدَني بأنّ الدرّاجَةَ لي ثُمَّ أخلَف؟

هَلْ ألله سُبحانَهُ هُوَ مَنْ زَرَعَ بِي ذلِكَ الأمَلَ دونَ مُسَبِّب؟

هَلْ ألله سُبحانَهُ هُوَ مَنْ جَعَلَنِي أشْتاقُ وَأتَعَلَّقُ دونَ تدخُّلٍ مِنْ أحد؟

هَلْ ألله سُبحانَهُ هُوَ مَنِ اشترىٰ الدرّاجَةَ وَأعْطاها لِغَيْري؟

هَلْ وَهَلْ وَهَلْ..؟

إذَن لَيْسَ مِنَ الصَّحيحِ أن نُغَلِّفَ وَنُبَرِّرَ تَصَرُّفاتنا الخاطِئَة بِعِباراتٍ جَميلَةٍ ومُنَمَّقَةٍ هِيَ لَيْسَتْ فِي مَحَلِّها وَلَها شَأْناً ووَقْعاً آخَر

حالُ يوسُف اليَوم
هُوَ حالَ الكثيرِ مِنّا في عَصرِنا الرّاهِن

نَعيشُ أحلامَ القِصّة ..
ونموتُ بآلامِ الغُصّة

✍🏻 منصور العرادي
٢٦ صفر الخير لعام ١٤٣٦ هـ ق

127 مشاهده الأثنين 21 جمادى الآخرة 1443ﻫ
الاهواز

مشارکه علی

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *